ليكتان
S
?
تكتب رشا القاسم عن اللغة العربية كلغة الشعر، وتأثيرها على الأدب الحديث، وعن اللغة كوسيلة للإنسان ليتمكن من التواصل مع نفسه.
لو قيل لي أين تريد أن تعيشين ؟ سأجيب بلا تردد؛ داخل اللغة.
يعيش الكاتب داخل اللغة ما ان يخط سطره الأول ،بدايته ، نصوصه الأولى.
تبدأ ولا تنتهي، يتحول كل العمل بعد ذلك إلى كلمات، يتحول واجبك الانساني الى تحويل كل شيء تراه وتسمعه يجرحك وتجرحه إلى سطر أو نص أو فكرة
الشيء المدهش في الأمر أن الدرس الأول الذي تعلمك اياه اللغة هو نسيان الرد والتعبير عن الشعور بطريقة ثانية، تصبح اللغة فوراً هي السلاح الأوحد الذي تواجه به كل ما يواجهك في حياتك من تقلبات وصدمات وأزمات . وكأنها ترتفع بك الى مستواك الرفيع حيث الرد بالكلمة والتعبير بالعبارة والسطر أحدُّ من السيف واسرع من الطلقة، تعلمك كيف تنال من التحديات ناسيا طرقك البدائية القديمة التي تعلمتها او اكتسبتها من مرحلة ما في حياتك.
لطالما سحرتني الانشغالات داخل اللغة، عملية البناء أو الترابط الداخلي بين الكلمات، ذلك الهذيان الفاصل بين الواقع والخيال، مطاردة المعنى وتحايل المخيلة، لعبة لاتريدها أن تنتهي وتريدها أن تنتهي في الوقت ذاته، لعبة انت الفائز فيها لانك قلت ما تريد، والخاسر فيها لانك لم تقل كل ما اردت قوله.
كنت ومازلت مأخوذة بالعمل الشاق الذي تخلفه كتابة قصيدة، لحظات انزياح اللغة تدفق الصور وسيرها في اتجاهاتٍ شتى، لذة نهاية النص ولحظة القول للنفس؛ لقد أنُجزتْ، لقد فعلت شيئًا عظيمًا للتو. كأن ذلك الفعل العظيم لا يضاهيه اي فعل او عمل اخر، انا في الحقيقة اعمل ولدي واجباتي التي اقوم بها إتجاه عائلتي وراضيةً تماما عما اقوم به، لكني كنت ومازلت حين اكتب قصيدة وأستيقظ في اليوم الآخر اشعر اني انجزت واحدة من أعظم الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الإنسان في حياته، اشعر وكأني لم اكن راضية هكذا من قبل.
إن العيش داخل اللغة فتح لي الكثير من الطرق التي لم أكن أعرف أنها موجودة داخلي وبالمقابل أغلق الكثير من الطرق التي لم يكن علي أن أسلكها، انه بطريقة ما منحني الامان الذي لم يمنحني اياه العالم، منحني الابتعاد عن الضوء والوقوع بضوء آخر، نوع من السلام الروحاني الخالص. الآن بعد سنوات من الخوض في مجال اللغة استطيع ان اقول؛ ان السومريين حين صنعوا أول لغة على وجه الارض أرادوا بذلك صناعة طريقة للتواصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان ونفسه أيضا.
أن الجسور التي تخلقها اللغة بين الكاتب والقارئ، تتجاوز بأشكالها وتصاميمها وأبعادها الانسانية والجمالية جميع الجسور التي نعبر عليها و نراها ونعرفها على الأرض، فيمكنني مثلاً أن أفهم تماما تصميم جسر من خلال إلقاء نظرة واحدة على مخطوطاته ومحاولة واحدة للفهم كافية لمعرفة وظيفته المستقبلية، أي أين سيقع؟ سيخدم اي منطقة في المدينة؟ لكن الجسور التي تخلقها اللغة لامتناهية العمق والبعد والجمال، وغير ثابتة أيضًا ، فلو قرأت قصيدة اليوم ثم رجعت إليها بعد شهر ستكتشف مجموعة من المعاني التي لم تصلك في القراءة الاولى ثم بعد سنة ستقرأها بطريقة لا تشبه القراءة الأولى والثانية، وكذلك هو الحال مع الرواية والفلسفة والكتب العلمية.
الكاتب برأيي لديه أكثر من لغة، حتى وإن كان لا يتقن لغة أخرى غير لغته الأم، فعملية الكتابة هي عملية استبطان الأشياء، عملية حفر لاكتشاف المعنى الداخلي، لكي يتمكن الكاتب من الإحاطة بموضوع ما، عليه أولًا إيجاد لغته الخاصة، هناك لغة داخل اللغة، شيء أشبه بالنواة، عليك ان تزيل القشور أولا، واحدا واحدا، ثم تصل بعد ذلك الى مبتغاك، تشعر حينها أنك وصلت فعلا ، تكتشف ان القشور لا تشبه النواة، وهذه التي وصلت إليها هي التي ستحيط بكل ما تريد.
لك أن تتخيل إذا كان الكاتب يملك لغة أخرى؛ بقواعد وتعقيدات مختلفة عن الاولى حينها تكون الآفاق أوسع والرؤى أبعد بكثير، كمن يحمل كومة من المفاتيح و يتجول من مكان الى اخر، من مدينة الى اخرى فاتحا أبواب المعرفة وطرق التخييل المختلفة عن بعضها البعض واحدة تلو الأخرى، ممتصاً في ذلك افكاراً وثقافات لاحصر لها، وهذا كله بالطبع يتكدس في خزائنه الثقافية والمعرفية التي تنعكس بدورها على طريقة تفكيره ونظرته للعالم.
أغنى تعدد اللغات عند الكتاب الفكر البشري، فليس خفياً نقل ملحمة كلكامش الى لغات اخرى ودراستها الى الان بأكبر الجامعات حول العالم، كما أن الأعمال الادبية التي نقلها تعدد اللغات من والى العربية هي التي قاربت وكشفت عن الثقافات والأشكال الجمالية المتعددة في الشعر والرواية والفكر، فأنا شخصيا لا يمكنني ان اتخيل المكتبة العربية التي لا تحتوي على أعمال ميلان كونديرا وبورخيس وريلكه وغابرييل غارسيا ماركيز و(الرجل المكتبة) البرتو مانغويل، كما لا اتخيل خلو المكتبة العالمية من الشعر العربي الحديث، الشعر البابلي أعمال نجيب محفوظ غسان كنغاني أحمد سعداوي وغيرهم من الأعمال العظيمة التي كانت ومازالت تساهم بشكل كبير بتشكيل الذائقة المعرفية والأدبية.
لا يمكنني تخيل الذاكرة العربية دون قول: تخيّل أنك عشت في عالم ليس فيه مرايا كنت ستحلم بوجهك ، كنت ستتخيله كنوع من الانعكاس الخارجي لما هو داخلك . بعد ذلك ، افرض أنهم وضعوا أمامك مرآة وأنت في الأربعين من عمرك . تخيّل جزعك . كنت سترى وجهاً غريباً تماماً . و كنت ستفهم بصورة جليّة ما ترفض الإقرار به : وجهك ليس أنتَ. ميلان كونديرا.
اولو انني لم أقرأ ريلكه قائلًا: نشكل الكلمات بألف طريقة وطريقة، ولكن هل يمكننا أن نتساوى مع وردة؟. او لو اننا لم نرَ غابرييل غارسيا ماركس يختم روايته(الحب في زمن الكوليرا) بجملة: مدى الحياة.
رشا القاسم • 2023-02-10 ولدت رشا القاسم في سامراء بالعراق وهي شاعرة وصحفية.