زائر غوتنبرغ

Bild: Pasi Mammela/Creative commons 2.0

تتحول أمسية من غوتنبرغ إلى صورة للمدينة التي رحبت به، هكذا عندما يظهر كاتب الملاذ السابق أحمد عزام لأول مرة في ليكتان باللغتين العربية والسويدية

أن تعود خطوتين إلى الوراء لتخبر امرأة أن ابتسامتها جميلة أثناء انعطافةٍ على شارع ما يودي إلى نوردستان، قد يقتل جمالية تلك اللحظة التي رمقتك بها وكأنها تقول لك “صباح الخير، أشعر أنني جميلة جداً اليوم و لقد أغراني أن أبتسم لك، كأنك حبيبي الذي لم ألتقِ به منذ دهر عند انعطافة شارع ما في الطريق إلى نوردستان”، ولأنني حريص على أن لا أحيل النظرات العابرة الخاطفة المليئة بالحياة إلى حوار يستمد جرأته من تلك الابتسامة، أكبح نفسي عن سؤالها مثلاً ” هل ترغبين بفنجان قهوة يصنع يومنا”. بعد ذلك – ندماً على إضاعة فرصتي- أمضي بقية يومي مشغولاً بسؤالٍ لئيم، ماذا سأفعل بما تبقى لي من يوم،؟ فابتسامة امرآة مليئة بالحب على انعطافة شارع ما هي ذروة يومٍ رائع مملوء بعالمٍ يطفو على القتلى.

قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش يوماً، ستحسن صنعاً يا وطني لو سلمت رئاسة أجهزة الأمن لامرأة، ولأنني أعرف تماماً ما تفعله العجرفة بالرجال وخاصة حين يحوزون مناصب أمنية واسعة فأنا أوافقه تماماً، فالمرأة تستطيع أن تكبح أكثر الأفعال تمرداً بابتسامة، وعابرة.

الدخول في المدينة\المرأة يصبح عصيّاً على القراءة كلما تورط المرء في تفاصيلها أكثر، تعتقد في البداية أنك اقتحمت أسوارها وامتلكت سرائرها وأسرارها، هنا تمارس شهوة الاستحواذ رغبتها بغرور مفرط، حتى إذا ما اصطدم تاريخ كامل من التناقضات بينك وبينها، رضيت من زمانك في أن تبقى حارس بوابتها الأمين، أو أن تشنق نفسك على أسوارها. وغوثنبرغ امرأة جميلة حنونة لعوبة وممتلئة بأسئلة الدهشة بالنسبة للاجئٍ مثلي. يُشعرني بالغضب أن أرى أي نشوزٍ يخدش صورتها التي أثثت لها في ذاكرتي، فأنا متمسكٌ بالمدن الجديدة التي أستقر بها بشكلٍ غريب و أناني لحد التملك، كما لو أنها مدني. في بعض الأحيان أصبح متورطاُ في تطرفي للحد الذي أشعر به أنني جدير بانتمائي إليها أكثر بكثير من بعض سكانها الأصليين، حصل لي هذا في دمشق اسطنبول غازي عنتاب والآن في غوثنبرغ. مدنٌ لا أعرف مغادرتها إلا إن قررت التشهير بي أو قتلي أو وضعي على قائمة الغير مرغوبين بهم، والمشكلة أن من يحدد لك ذلك الأمر هم دائماً رجال أشبههم أنا على المستوى التشريحي، وهذا لا يزعجني بل على العكس فالعامل التشريحي هو موهبتي الذكورية الوحيدة لأغرق فيما أحب، لأغرق في الأنثى، ولكنني أعلم في داخلي أنني إمرأة بكل مشاعري الهادئة والمتمردة، السعيدة والمكتئبة، الناقمة على تفاهة الظلم في العالم، والمضمدة لجرح الإنسان منذ آلاف السنين. هذا ما تطبعه المدن في داخلك، جوثنبرغ تحوّلك إلى إمرأة قوية تدرك تماماً أنها تعبر عن ذاتها دون تردد, وتعبيرها عن ذاتها غاية أكثر منها وسيلة، غاية أن تحافظ على جمالها وتمردها المهيء للانفجار في أي لحظة. يمكنك دائماً في هذه المدينة أن تغيّر قناعاتك السابقة دون أن تشعر بأنك تمارس خيانةً ما لأنها تحتضنك بما يكفي لمشردٍ يبحث عن شهادة ميلادٍ دائمة ولا يؤمن بالجغرافية بقدر ما يؤمن أن لديه حقٌ مهدوريجب أن يسحبه من عيون هذا العالم الذي يضعه يوماً وراء آخر أمام تعريف أيديولوجي جديد لمعنى الوطن. ماذا يعني ذلك ؟ يعني ذلك أنك محروم من الأجابة عن سؤال الوطن، ولكن يبقى لك أحقية الصراخ كلما فاض الواقع عن واقعيته وواجهك بحسابات السياسة الباردة.

أحب خصوصية كائنات غوثنبرغ الليلة تشعر أنك جزءٌ من كل، ولكن هذا الكل غائب عن حقيقة ما يجري في الجهة الآخرى من العالم المستباح والمنهك، أقف في الشارع الذي يلتهمني ويلتهم معي غيظي وقهري، فأنا هنا أنتمي إلى هذا التغييب، أقول: لا بد أن يكون في العالم بشرٌ آخرون مختلفون ومغيبون كي لا نفقد الذاكرة مع هذه العادية الضرورية لحق البشر في الانكار، حقهم في أن لا تعنيهم المأساة حتى ولو لليلة واحدة، أن يرقصوا وأن يثملوا، أن يقفوا على طوابير البارات والنوادي الليلية، وأن يتآمروا على ممارسة الجنس حتى الصباح، أن يجتمعوا في زوايا مشبوهة وهم يبيعون ويشترون المخدارات. عالم ليلي مجنون ملونٌ بعناصره المكتملة سود وبيض صفر وحمر وملونون، بوهيميون ومتدينون، شيوعيون وعنصريون كلهم يبحثون عن حصتهم في متعة هذا الليل. أشعر أنني أعرفهم جميعاً، أعرف أسماءهم. أراقب تلك الوجوه في شارع آفنين، عبيد القرن الواحد والعشرون، الوجوه المستترة ب”المتعة اللحظية”، هدفهم الحقيقي للخروج في هذه الليلة، ليلة السبت الصاخبة، بعد أسبوعٍ كاملٍ من استهلاكهم في ماكينة العمل الروتيني الممل. بعضهم وصل إلى حظه الكامل من النشوة والنسيان، وبعضهم الآخر فقد متعة المتعة نفسها. تشعر بذلك الفراغ في بعض العيون التي لا تمتلئ أبداً، عيون أخرى عمياء جداً، عيون متوترة، عيونُ بلا عيون. حلقات من المراهقين يحولون الشارع إلى ديسكو، رومانيات مسنات يبحثن عن علب الكولا والبيرة في سلات المهملات كي يستبدلنها بوجبةٍ صباحية من متجر الليدل، يبتسمن ابتسامات ناقصة مليئة بشعورهن بالنقص والحاجة. فتيات صغيرات يقفن كسدٍّ منيع ليحجبن صديقتهن التي تقوم بالتبول خلف شجرة بلوط هرمة، يضحكن عالياً عالياً، أشم رائحة بولها فأشعر بطاقة لطيفة ومباغتة. رجل يقرع طبول الحرب وهو يضع رقم سويش على كرتونةٍ رديئة كمن يطالب بتعويض عن كل هذا الازعاج الذي يبدده في الأرجاء، وأنا، وعلى سبيل الرفض، أرسل له كرونة سويدية واحدة عبر السويش مرفقة برسالة “كس إختك صرعتنا” أكتبها بالعربية وأعرف أنه سيفهمها، فهذه المدينة تهِبك خبرةً لا تعرف مصدرها في قدرتك على تصنيف الأعراق البشرية التي تُشعِل كل ذلك الحريق الذي يضيء المدينة.

يتقدم مني شاب أفريقي ويعرض علي بضاعته، يبدو تحت تأثير شديد للمخدرات ويتكلم بلغة سويدية مخربة بابداع رهيب

“Sho min glade vän Vill du knulla den här natten? wallah bror har jag bästa göteborgs varor, grönt brunt lolo tata och cola alla topp topp wallah bror”


Bild: Lars Lovén

أفهم أنها كلها أسماء رمزية للمخدرات التي يحملها معه ويبيعها للمارة، أخبره أنني بمزاج جيد، فينسحب بسرعة عندما يرى سيارات البوليس التي تذرع المكان جيئة وذهاباً.

مسّتني الحماسة، أمسك بخطاي وأنا أستشعر تياراً بارداً من الثقة والعافية يلسع عمودي الفقري فأدلف نحو بار “آيريش إمباسي”، يراقبني الحارس بنظرةٍ تقشرني كالبصلة، أدخل البار عارياً من قشرتي، أضع قلبي على الطاولة وأطلب نصف لتر بيرة وأغرق في ازدحام الضحيح من حولي، الضجيج رائع يُخرجك من الغريب الذي هو أنت ويبتلع خوفك. على يساري كان ذلك المرتاب، رجلً خمسيني، أومأ بحركةٍ خائفة ثم سأل شيئاً باللغة السويدية، نظرت في عينيه، أدركت أنه يصطنع الخوف، وأخبرته بلغة انكليزية أنني لا أملك لغة سويدية كافية لفهم سؤاله. أشار إلى حقيبتي ثم اقترب من صيوان أذني وصرخ بلغة انكليزية، هل يوجد قنبلة في حقيبتك ؟ أبديت إعجابي بذكائه، ولو أنه أمعن النظر في عينيّ كما فعلت أنا، لظهر له منهما لسان سخريتي. قلت بصوت مرتفع: “كيف عرفت ذلك ؟ ارتسمت على وجهه نظرة ريبة حقيقية

” عرفت ذلك من كوفيتك الفلسطينية، هل ستقوم بتفجير القنبلة الآن” ؟
اقتربت منه أكثر ” الأعداد هنا لا تغريني بالتفجير أنتظر قدوم أعداد أكبر”، أحسّ الرجل بسخريتي أخيراً فحاول أن يبدو أكثر عقلانية

– ” كان يمكنكم أن تسلموا الرهائن الاسرائيليين وتتجنبوا هذه الحرب”

– ” أنت على حق، لكن بعض الفلسطينيين السيئيين لا يؤمنون أن العنف يجب أن يبقى من طرف واحد، الطرف المهيمن، لذلك يورطون اسرائيل في الابادة التي تمارسها خارجاً عن إرادتها، إنهم يكلفون الاحتلال عناء قتلنا”.

بدا الرجل مندهشاً عدا أن الراحة غزت قسمات وجهه،

-” هل حقاً تؤمن بذلك ؟

– وأؤمن أيضاً أن الفلسطيني يتآمر على العادة الاسرائيلية في كونها الضحية، ثمانون عام والأوروبييون ملتزمون بجلد الذات اتجاه سردية الضحية اليهودية الاستثنائية التي ارتُكبت بحقها أسوأ ما يمكن لخيالٍ آدمي أن يتخيله في معسكرات الهولوكوست، ماذا يفعل العالم أكثر من ذلك لكي يُشفى من الهولوكوست، لقد قاموا بتجريد شعب كامل من أرضه ومنحوها لليهود كجائزة ترضية، والفلسطينيون جاحدون جداً، قَدموا لهم الخيام بدلاً عن مدنهم فلم يتآلفو معها، وضعوهم في أكبر محمية في الهواء الطلق فتذرعوا بالاختناق وحولوها إلى مقبرة، حاول العالم أن يستوعب رغبتهم في الحياة كبشر عاديين، لكن متطلباتهم كانت تزداد بشكل لا يطاق، لو كنت صاحب قرار لرميت قنبلة نووية على الفلسطينيين وتركت من سيتبقى منهم يتخبطون مئة عام في عملية جلدٍ للذات للاعتذار إلى الضحية الاسرائيلية لأنهم قاموا بتحويلها إلى جلاد.

هذا ما كنت أود أن أخبر به هذا الرجل الخمسينيّ لكنني تذكرت أن هذه الليلة هي ليلة السبت حيث لا صديق ولا عدو، لذا آثرتُ الرقص.

أخرج للشارع مثّاقلاً، أبحث عن رائحة القهوة، محاط بما تبقى من زواحفِ آخر الليل، ضوء النهار على بعد خمسة ساعاتٍ من الآن، والمقاهي مغلقة، أمر بالقرب من ساحة برونس باركن، الأسد المتربع عند القناة المائية ما يزال متأهباً وينظر نحو الدنمارك، أمسح على رأسه قليلاً فيهداً ثم ما يلبث أن يقفز ويسبح في القناة ككلب أليف، أتابع سيري تاركاً يدي تتأرجح على سورٍ عشبي بلله المطر، تدغدني قطرات الماء الباردة، وتتقافز أسماكٌ صغيرة من بين أصابعي، أحاول أن أتلافى دهسها فأرقص. تلتهمني امرأةٌ طازجة بعينين واسعتين وهي تنتظر على محطة القطار بالقرب من نوردستان، أقول في نفسي “نظرات امرأة في الليل هو أمرٌ حسيّ أكثر منه جماليّ وخيانته التجاهل”، لذا، أعود خطوتين إلى الوراء وأسألها، ما رأيك بكأس نبيذ يصنع ليلنا؟!

Ahmad Azzam • 2024-09-11
Ahmed Azzam är en syrisk-palestinsk författare som bor i Sverige och var fristadsförfattare i Göteborg 2020-2022.


زائر غوتنبرغ

Bild: Pasi Mammela/Creative commons 2.0

تتحول أمسية من غوتنبرغ إلى صورة للمدينة التي رحبت به، هكذا عندما يظهر كاتب الملاذ السابق أحمد عزام لأول مرة في ليكتان باللغتين العربية والسويدية

أن تعود خطوتين إلى الوراء لتخبر امرأة أن ابتسامتها جميلة أثناء انعطافةٍ على شارع ما يودي إلى نوردستان، قد يقتل جمالية تلك اللحظة التي رمقتك بها وكأنها تقول لك “صباح الخير، أشعر أنني جميلة جداً اليوم و لقد أغراني أن أبتسم لك، كأنك حبيبي الذي لم ألتقِ به منذ دهر عند انعطافة شارع ما في الطريق إلى نوردستان”، ولأنني حريص على أن لا أحيل النظرات العابرة الخاطفة المليئة بالحياة إلى حوار يستمد جرأته من تلك الابتسامة، أكبح نفسي عن سؤالها مثلاً ” هل ترغبين بفنجان قهوة يصنع يومنا”. بعد ذلك – ندماً على إضاعة فرصتي- أمضي بقية يومي مشغولاً بسؤالٍ لئيم، ماذا سأفعل بما تبقى لي من يوم،؟ فابتسامة امرآة مليئة بالحب على انعطافة شارع ما هي ذروة يومٍ رائع مملوء بعالمٍ يطفو على القتلى.

قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش يوماً، ستحسن صنعاً يا وطني لو سلمت رئاسة أجهزة الأمن لامرأة، ولأنني أعرف تماماً ما تفعله العجرفة بالرجال وخاصة حين يحوزون مناصب أمنية واسعة فأنا أوافقه تماماً، فالمرأة تستطيع أن تكبح أكثر الأفعال تمرداً بابتسامة، وعابرة.

الدخول في المدينة\المرأة يصبح عصيّاً على القراءة كلما تورط المرء في تفاصيلها أكثر، تعتقد في البداية أنك اقتحمت أسوارها وامتلكت سرائرها وأسرارها، هنا تمارس شهوة الاستحواذ رغبتها بغرور مفرط، حتى إذا ما اصطدم تاريخ كامل من التناقضات بينك وبينها، رضيت من زمانك في أن تبقى حارس بوابتها الأمين، أو أن تشنق نفسك على أسوارها. وغوثنبرغ امرأة جميلة حنونة لعوبة وممتلئة بأسئلة الدهشة بالنسبة للاجئٍ مثلي. يُشعرني بالغضب أن أرى أي نشوزٍ يخدش صورتها التي أثثت لها في ذاكرتي، فأنا متمسكٌ بالمدن الجديدة التي أستقر بها بشكلٍ غريب و أناني لحد التملك، كما لو أنها مدني. في بعض الأحيان أصبح متورطاُ في تطرفي للحد الذي أشعر به أنني جدير بانتمائي إليها أكثر بكثير من بعض سكانها الأصليين، حصل لي هذا في دمشق اسطنبول غازي عنتاب والآن في غوثنبرغ. مدنٌ لا أعرف مغادرتها إلا إن قررت التشهير بي أو قتلي أو وضعي على قائمة الغير مرغوبين بهم، والمشكلة أن من يحدد لك ذلك الأمر هم دائماً رجال أشبههم أنا على المستوى التشريحي، وهذا لا يزعجني بل على العكس فالعامل التشريحي هو موهبتي الذكورية الوحيدة لأغرق فيما أحب، لأغرق في الأنثى، ولكنني أعلم في داخلي أنني إمرأة بكل مشاعري الهادئة والمتمردة، السعيدة والمكتئبة، الناقمة على تفاهة الظلم في العالم، والمضمدة لجرح الإنسان منذ آلاف السنين. هذا ما تطبعه المدن في داخلك، جوثنبرغ تحوّلك إلى إمرأة قوية تدرك تماماً أنها تعبر عن ذاتها دون تردد, وتعبيرها عن ذاتها غاية أكثر منها وسيلة، غاية أن تحافظ على جمالها وتمردها المهيء للانفجار في أي لحظة. يمكنك دائماً في هذه المدينة أن تغيّر قناعاتك السابقة دون أن تشعر بأنك تمارس خيانةً ما لأنها تحتضنك بما يكفي لمشردٍ يبحث عن شهادة ميلادٍ دائمة ولا يؤمن بالجغرافية بقدر ما يؤمن أن لديه حقٌ مهدوريجب أن يسحبه من عيون هذا العالم الذي يضعه يوماً وراء آخر أمام تعريف أيديولوجي جديد لمعنى الوطن. ماذا يعني ذلك ؟ يعني ذلك أنك محروم من الأجابة عن سؤال الوطن، ولكن يبقى لك أحقية الصراخ كلما فاض الواقع عن واقعيته وواجهك بحسابات السياسة الباردة.

أحب خصوصية كائنات غوثنبرغ الليلة تشعر أنك جزءٌ من كل، ولكن هذا الكل غائب عن حقيقة ما يجري في الجهة الآخرى من العالم المستباح والمنهك، أقف في الشارع الذي يلتهمني ويلتهم معي غيظي وقهري، فأنا هنا أنتمي إلى هذا التغييب، أقول: لا بد أن يكون في العالم بشرٌ آخرون مختلفون ومغيبون كي لا نفقد الذاكرة مع هذه العادية الضرورية لحق البشر في الانكار، حقهم في أن لا تعنيهم المأساة حتى ولو لليلة واحدة، أن يرقصوا وأن يثملوا، أن يقفوا على طوابير البارات والنوادي الليلية، وأن يتآمروا على ممارسة الجنس حتى الصباح، أن يجتمعوا في زوايا مشبوهة وهم يبيعون ويشترون المخدارات. عالم ليلي مجنون ملونٌ بعناصره المكتملة سود وبيض صفر وحمر وملونون، بوهيميون ومتدينون، شيوعيون وعنصريون كلهم يبحثون عن حصتهم في متعة هذا الليل. أشعر أنني أعرفهم جميعاً، أعرف أسماءهم. أراقب تلك الوجوه في شارع آفنين، عبيد القرن الواحد والعشرون، الوجوه المستترة ب”المتعة اللحظية”، هدفهم الحقيقي للخروج في هذه الليلة، ليلة السبت الصاخبة، بعد أسبوعٍ كاملٍ من استهلاكهم في ماكينة العمل الروتيني الممل. بعضهم وصل إلى حظه الكامل من النشوة والنسيان، وبعضهم الآخر فقد متعة المتعة نفسها. تشعر بذلك الفراغ في بعض العيون التي لا تمتلئ أبداً، عيون أخرى عمياء جداً، عيون متوترة، عيونُ بلا عيون. حلقات من المراهقين يحولون الشارع إلى ديسكو، رومانيات مسنات يبحثن عن علب الكولا والبيرة في سلات المهملات كي يستبدلنها بوجبةٍ صباحية من متجر الليدل، يبتسمن ابتسامات ناقصة مليئة بشعورهن بالنقص والحاجة. فتيات صغيرات يقفن كسدٍّ منيع ليحجبن صديقتهن التي تقوم بالتبول خلف شجرة بلوط هرمة، يضحكن عالياً عالياً، أشم رائحة بولها فأشعر بطاقة لطيفة ومباغتة. رجل يقرع طبول الحرب وهو يضع رقم سويش على كرتونةٍ رديئة كمن يطالب بتعويض عن كل هذا الازعاج الذي يبدده في الأرجاء، وأنا، وعلى سبيل الرفض، أرسل له كرونة سويدية واحدة عبر السويش مرفقة برسالة “كس إختك صرعتنا” أكتبها بالعربية وأعرف أنه سيفهمها، فهذه المدينة تهِبك خبرةً لا تعرف مصدرها في قدرتك على تصنيف الأعراق البشرية التي تُشعِل كل ذلك الحريق الذي يضيء المدينة.

يتقدم مني شاب أفريقي ويعرض علي بضاعته، يبدو تحت تأثير شديد للمخدرات ويتكلم بلغة سويدية مخربة بابداع رهيب

“Sho min glade vän Vill du knulla den här natten? wallah bror har jag bästa göteborgs varor, grönt brunt lolo tata och cola alla topp topp wallah bror”


Bild: Lars Lovén

أفهم أنها كلها أسماء رمزية للمخدرات التي يحملها معه ويبيعها للمارة، أخبره أنني بمزاج جيد، فينسحب بسرعة عندما يرى سيارات البوليس التي تذرع المكان جيئة وذهاباً.

مسّتني الحماسة، أمسك بخطاي وأنا أستشعر تياراً بارداً من الثقة والعافية يلسع عمودي الفقري فأدلف نحو بار “آيريش إمباسي”، يراقبني الحارس بنظرةٍ تقشرني كالبصلة، أدخل البار عارياً من قشرتي، أضع قلبي على الطاولة وأطلب نصف لتر بيرة وأغرق في ازدحام الضحيح من حولي، الضجيج رائع يُخرجك من الغريب الذي هو أنت ويبتلع خوفك. على يساري كان ذلك المرتاب، رجلً خمسيني، أومأ بحركةٍ خائفة ثم سأل شيئاً باللغة السويدية، نظرت في عينيه، أدركت أنه يصطنع الخوف، وأخبرته بلغة انكليزية أنني لا أملك لغة سويدية كافية لفهم سؤاله. أشار إلى حقيبتي ثم اقترب من صيوان أذني وصرخ بلغة انكليزية، هل يوجد قنبلة في حقيبتك ؟ أبديت إعجابي بذكائه، ولو أنه أمعن النظر في عينيّ كما فعلت أنا، لظهر له منهما لسان سخريتي. قلت بصوت مرتفع: “كيف عرفت ذلك ؟ ارتسمت على وجهه نظرة ريبة حقيقية

” عرفت ذلك من كوفيتك الفلسطينية، هل ستقوم بتفجير القنبلة الآن” ؟
اقتربت منه أكثر ” الأعداد هنا لا تغريني بالتفجير أنتظر قدوم أعداد أكبر”، أحسّ الرجل بسخريتي أخيراً فحاول أن يبدو أكثر عقلانية

– ” كان يمكنكم أن تسلموا الرهائن الاسرائيليين وتتجنبوا هذه الحرب”

– ” أنت على حق، لكن بعض الفلسطينيين السيئيين لا يؤمنون أن العنف يجب أن يبقى من طرف واحد، الطرف المهيمن، لذلك يورطون اسرائيل في الابادة التي تمارسها خارجاً عن إرادتها، إنهم يكلفون الاحتلال عناء قتلنا”.

بدا الرجل مندهشاً عدا أن الراحة غزت قسمات وجهه،

-” هل حقاً تؤمن بذلك ؟

– وأؤمن أيضاً أن الفلسطيني يتآمر على العادة الاسرائيلية في كونها الضحية، ثمانون عام والأوروبييون ملتزمون بجلد الذات اتجاه سردية الضحية اليهودية الاستثنائية التي ارتُكبت بحقها أسوأ ما يمكن لخيالٍ آدمي أن يتخيله في معسكرات الهولوكوست، ماذا يفعل العالم أكثر من ذلك لكي يُشفى من الهولوكوست، لقد قاموا بتجريد شعب كامل من أرضه ومنحوها لليهود كجائزة ترضية، والفلسطينيون جاحدون جداً، قَدموا لهم الخيام بدلاً عن مدنهم فلم يتآلفو معها، وضعوهم في أكبر محمية في الهواء الطلق فتذرعوا بالاختناق وحولوها إلى مقبرة، حاول العالم أن يستوعب رغبتهم في الحياة كبشر عاديين، لكن متطلباتهم كانت تزداد بشكل لا يطاق، لو كنت صاحب قرار لرميت قنبلة نووية على الفلسطينيين وتركت من سيتبقى منهم يتخبطون مئة عام في عملية جلدٍ للذات للاعتذار إلى الضحية الاسرائيلية لأنهم قاموا بتحويلها إلى جلاد.

هذا ما كنت أود أن أخبر به هذا الرجل الخمسينيّ لكنني تذكرت أن هذه الليلة هي ليلة السبت حيث لا صديق ولا عدو، لذا آثرتُ الرقص.

أخرج للشارع مثّاقلاً، أبحث عن رائحة القهوة، محاط بما تبقى من زواحفِ آخر الليل، ضوء النهار على بعد خمسة ساعاتٍ من الآن، والمقاهي مغلقة، أمر بالقرب من ساحة برونس باركن، الأسد المتربع عند القناة المائية ما يزال متأهباً وينظر نحو الدنمارك، أمسح على رأسه قليلاً فيهداً ثم ما يلبث أن يقفز ويسبح في القناة ككلب أليف، أتابع سيري تاركاً يدي تتأرجح على سورٍ عشبي بلله المطر، تدغدني قطرات الماء الباردة، وتتقافز أسماكٌ صغيرة من بين أصابعي، أحاول أن أتلافى دهسها فأرقص. تلتهمني امرأةٌ طازجة بعينين واسعتين وهي تنتظر على محطة القطار بالقرب من نوردستان، أقول في نفسي “نظرات امرأة في الليل هو أمرٌ حسيّ أكثر منه جماليّ وخيانته التجاهل”، لذا، أعود خطوتين إلى الوراء وأسألها، ما رأيك بكأس نبيذ يصنع ليلنا؟!

Ahmad Azzam • 2024-09-11
Ahmed Azzam är en syrisk-palestinsk författare som bor i Sverige och var fristadsförfattare i Göteborg 2020-2022.